الثقافة الاسلامیۀ
موقع إسلامي وثقافي الثقافة الاسلامية

«قره باغ» بضعة من الوعاء الجغرافي للعالم الإسلامي

0 359

بقلم “برهان حشمتي”*

 

بعد أن خرج التوتر بين أرمينيا وأذربيجان على السيادة على إقليم ناغورني قره باغ من حالة الغليان على صفيح ساخن إلی حالة حرب؛ أخذت تطرح من جدیدة عدة قضایا عسكرية وامنية أثارت مخاوف العدید من الأطراف؛ أبرزها المخاوف المتعلقة بالنتائج الكارثية التي سوف تخلفها هذه الحرب بعد تكرار الكوارث التي حدثت في الحرب التي شهدها الاقليم في النزاع المسلح الذي نشب في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وحتى مايو 1994م.

يوجد في اذربيجان تياران رئيسيان، لكل منهما توجهاته. التیار الأول هو التیار الحاكم في هذا البلد والذي يؤكد علی أن الحرب الدائرة في قره باغ هي حرب قومية ووطنية. من هذا المنطلق يؤكد بأن جمهورية اذربيجان تحتفظ بكامل الحق والشرعية في العمليات العسكرية لاستعادة اراضيها وفرض السیطرة علیها بعد اخراجها من قبضة الأرمن الانفصاليين. أما التیار الثاني فيؤكد علی ان الصراع الدائر في قره باغ هو صراع ديني ومذهبي إلی جانب كونه صراع وطني وقومي. ویرفع انصار هذا التیار شعار ديني يشیر بشكل مباشر إلی عبارة منسوبة إلی قائد الثورة الإسلامية، اية الله السید علي الخامنئي، يقول فيها: إن «قره باغ هي أرض اسلامية». ثمة آراء متضاربة حول صحة نسبة هذه العبارة لقائد الثورة الإسلامية وكذلك الظروف والفترة الزمنية التي قيلت ونشرت فيها العبارة، لكن الأمر المؤكد هو ان الموقف الرسمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية من أزمة قره باغ والصراع الدائر فيها هو موقف واضح وشيرح. دعت إيران، لوقف إطلاق النار في قره باغ، واحترام وحدة الأراضي الأذربيجانية. إن موقف طهران القائم على ‏حث الأطراف على الحوار وينطلق من مبدأ الحق والعدالة بعيداً عن أي اعتبارات سیاسية وامنية. إلی جانب هذا، تؤكد طهران ضرورة العمل على إيجاد حل جذري وعادل یضمن بمصیر الأرمن في قره باغ.

إن هذا الموقف الواضح هو مبادرة علی هيئة خلاصة موجزة تحتوي علی تفاصيل تحمل في طياتها إشارات دقيقة وحساسة يمكنها ان تشكل بنية تحتية منطقية وعقلانية لإیجاد حل سلمي وانساني وعادل لأزمة قره باغ المعقدة، ذلك لأن أزمة قره باغ لیست أزمة اراضي(فقط) كما تروج لها الحكومة الاذربيجانية، ولا قومية بحتة كما يروج لها انصار القومية التركية والصهاينة، ولا مذهبية ودينية خالصة كما تروج له بعض الأحزاب السلطوية في اذربيجان وإيران.

في الحقيقة، تشكل أزمة قره باغ أزمة معقدة ومتشابكة تتداخل فيها عدة ازمات قومية ومذهبية وسیاسية وأمنية إلی جانب كونها أزمة تتعلق بالسیادة، لذا فان ایجاد حل عادل لهذه الأزمة لايتوقف عند القرارات السیاسية الصادرة عن جمهورية اذربيجان وارمينيا والأرمن في قره باغ فحسب، بل يتعدی هذه الأطراف ليشمل أطراف وجهات أقليمية أخری.

 مع الأسف الشدید، قد أغفل اطراف الصراع الدور البناء الذي يمكن أن تؤديه الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذه الأزمة والسبب يعود إلی عدة اسباب واعتبارات.  

ورغم كيد أعداء الأمة الإسلامية، ان تاريخ منطقة القوقاز وثقافتها مرتبطة بجذور تاريخية و وماضٍ مشترك، وثقافة وعقيدة مشتركة ترتبطها بالوعاء الجغرافي للحضارة الإسلامية، لذلك لايمكن فصل هذه المنطقة عن هذا الوعاء؛ فهذا الترابط لن يسقط لا بالتقادم ولابحياكة المؤامرات. 

خلال العقود السبعة الماضية وبرغم المحاولات الواسعة لنظام الاتحاد السوفيتي السابق الرامية لتحدید هوية الجمهوريات -كجمهورية اذربيجان وارمينيا وجورجيا و…- تحديداً قومياً؛ ظلت هذه الجمهوريات محتفظة بعلاقاتها الوثيقة بالتاريخ والثقافة الإسلامية. لاشك أن منطقة القوقاز كانت من بين أكثر المناطق استهدافاً حيث شهدت العدید من الاجراءات الهادفة لاحداث تغییرات في الهوية والثقافة. ومن بين الجمهوريات، كانت جمهورية اذربيجان أكثر الجمهوريات استهدافاً لاحداث هذه التغییرات بحيث كان العمل فيها يتمحور حول التغییر الهوياتي والمذهبي. 

وبالرغم من ان النظام الشيوعي(في الاتحاد السوفيتي السابق) قام بتحدید هوية الجمهوريات تحدیداً قومياً؛ لكن الأمر بالنسبة لاذربيجان كان مختلفاً. إن النظام الشيوعي سعی إلی تهميش الطوائف المسلمة من خلال خلق هوية جدیدة في هذا البلد؛ أي هوية لیس لها أي جذور ولاصلة تتلائم مع الأصل الذي اعتمده النظام الشيوعي لتقسيم جمهوريات الاتحاد. في السنوات الأولی لإقامته، وانطلاقاً من سیاساته القائمة علی تحدید الجمهوريات تحدیدا قومياً؛ قام النظام الشيوعي بفصل قره باغ عن اذربيجان معلناً بأنها جزء من الأراضي الأرمينية. لكن في عام 1922 وبهدف تمریر سیاساته في الأراضي الاذربيجانية؛ قام هذا النظام بانتهاك قواعد اللعبة معلناً قره باغ ارض تابعة لأذربيجان. إن الهدف من هذه الخطوة كان تسهيل عملية احداث تغييرات ديمغرافية وهوياتية في اذربيجان. في هذه الفترة تمت صیاغة نشيد: “أصبحوا أخوة” وانتشر في المناطق والأحیاء الأرمينية في باكو و مدن أخری كسومقاييت وغنجة، بالإضافة إلی أكبر وأهم المناطق الاقتصادية والثقافية في جمهورية اذربيجان. ومهدت الأرضية للتزواج والامتزاج بين الأسر المسلمة والأرمنية بهدف تشكيل هوية جدیدة ليس لها أي خلفة تاريخية. 

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وحصول الجمهوريات علی الاستقلال، أصبحت هذه الهوية المزيفة كبنية أو وسيلة لتكوين أيديولوجية القومية الأذربيجانية التي تعد أهم الأيديولوجيات التي قام عليها حزب “أذربيجان الجديدة”. إن هذا الحزب- وهو الحزب السياسي الحاكم في أذربيجان- قام بانتهاج سياسات تتمحور حول احترام القومية التركية واليهودية وتزييف الحقائق التاريخية ومناهضة إيران وذلك بعد رفعه شعار احترام القومية الأذربيجانية. فالحزب أخذ يتابع نفس الاستراتيجية المتبعة في عهد الاتحاد السوفيتي السابق والمتمثلة بالاختلاط الفكري والعرقي، من خلال جعل الاختلاط الفكري والروحي مع اليهود والصهيونية كاستراتيجية محورية وأساس لأيديولوجيته.

إن الصراع حول منطقة قره باغ التي تقطنها أغلبية أرمنية، أعتبر في البداية صراعاً علی السیادة والسیطرة علی اراضي هذه المنطقة حتی لايؤثر علی الهوية المتبقية منذ فترة الاتحاد السوفيتي. لكن مع مرور الوقت وبعد ان تدخلت جهات خارجية-كأنصار القومية التركية والصهاينة- في الصراع، أخذ الصراع طابعاً قوميا!. ومؤخرا وبعد ان اندلعت المعارك من جدید في قره باغ؛ أخذت بعض الجهات تسعی إلی اضفاء طابع ديني ومذهبي علی الصراع الدائر هناك. 

الجمهورية الإسلامية الإيرانية أخذت موقفاً عادلا من النزاع بين اذربيجان وأرمينيا حول قره باغ؛ ان موقف إيران يستند إلی المشتركات العرقية والدينية والثقافية مع منطقة القوقاز، وينطلق من فهمها الصحيح والدقيق للتطورات والأحداث الجارية في المنطقة. انها وبعيداً عن التدخل وبرغم الافتراءات التي تروج لها بعض وسائل الاعلام، اتبعت جانب الحق. إن طهران دعت الأطراف إلی الكف عن القتال وانهاء المعارك للخروج من الأزمة التي أصبحت تحصد الكثیر من الأرواح، وبالتالي انها تؤكد علی ضرورة وقف اطلاق النار باسرع وقت للبدء بالحوار الشامل.

بطبيعة الحال، ان اجتیاز الأزمة لن يحصل إلا عن طريق تحلي الحكام والقادة في اذربيجان وارمينيا بالعقلانية، فبذلك يمكن لأطراف النزاع الخروج من هيمنة الأجانب. إن مستقبل هذه المنطقة يرسم من خلال رفض تدخلات الأجانب إلی جانب الاعتماد علی المشتركات التاريخية والثقافية التي تجمع بين الجانبين. ويكفي للأطراف المتصارعة الانتباه إلى الدور السلبي الذي لعبه النظام الصهيوني وتركيا في أزمة  قره باغ في السنوات الأخيرة لمعرفة الدور التخريبي الذي تلعبه الجهات الخارجية التي تؤجج الصراع.

ثمة معلومات مؤكدة تتحدث عن نفوذ الصهاينة في اذربيجان منذ العقود الماضية. لقد عملت اسرائیل علی توسیع دائرة نفوذها في هذا البلد من خلال عدة إجراءات أهمها التعاون الثنائي في المجالات الأمنية والعسكرية وبیع اسلحة فتاكة إلی اذربیجان. من جهة ثانية عملت إسرائیل علی التقارب مع ارمينيا منذ عدة سنوات، ونتيجة لذلك، قررت ارمينيا العام الماضي فتح سفارة لها في الأراضي المحتلة. بناء علی هذه المعلومات التاريخية؛ كان ولازال الخبراء في الشؤون الثقافية والسیاسية والتاريخية لمنطقة القوقاز يحذرون من التداعیات الكارثية للتواجد الإسرائیلي في هذه المنطقة.

منذ بداية تسرب الايديولوجية التي روج لها أتباع تركيا الفتاة أو الأتراك الشباب في جمهورية اذربيجان، وبتبع ذلك تمهيد الأرضية لتدخل الوهابيين التابعين للسعودية في هذا البلد، دق ناقوس الخطر حول مستقبل منطقة القوقاز. لقد أكد الخبراء بأن هذه التحركات سوف تلقي بالمنطقة في النار. ومنذ ذلك الوقت تم التحذیر من ان نقل الأزمن من سوريا ولبنان إلی قره باغ وارمينيا هو مخطط خطیر يتابع بشكل جدي من قبل جهات معادية. مع الأسف قد تحققت بعض المؤامرات التي حيكت لاستهداف هذه المنطقة ما شكل خطرا كبیراً علی حياة سكان هذا المنطقة خاصة المناطق متنازع عليها. 

لقد شكل إندلاع شرارة الحرب في قره باغ من جدید فرصة ذهبية، للصهاينة وانصار القومية التركية والمنظمات التكفيرية والتیارات المتطرفة الأرمينية. الوعي بهذه الحقيقة يدفعنا للقول بأن أصحاب هذه المنطقة يجب أن يقوموا بالبحث عن حل عادل عبر استئناف الحوار في إطار القانون الدولي واحترام وحدة أراضي الطرفين. إن هذه الأزمة لايمكن حلها من خلال اللجوء إلی الخیار العسكري المصحوب بالتدخلات الأجنبية. فلو كان فرض السیطرة العسكرية والسیادية علی هذه المنطقة دون الاهتمام بالاختلاف الثقافي والقومي والمذهبي يساهم في إيجاد حل عادل للأزمة، لكانت الأزمة قد انتهت في بداية التسعينيات عندما سیطرت القوات الأرمينية علی قره باغ والمناطق المحاذية عبر فرض سیطرتها العسكرية علی تلك المناطق. إن فشل الخیار العسكري الذي لجأ إلیه الأرمن في تسعينيات القرن الماضي، ولجوء اذربيجان إلی الخیار العسكري في الأسابیع الأخيرة يؤكد من جدید بأن العمليات العسكرية لايمكنها أن تؤدي إلی حل یرضي الأطراف وينهي الأزمة، كما انه يؤكد ضرورة الجوء إلی الحوار كخیار ناجع لإنهاء الصراع والمعارك الدائرة في تلك المنطقة. ماتقدم ذكره هو ملخص للمبادرة التي طرحتها الجمهورية الإسلامية الإیرانية انطلاقاً من مبدأ الحق والعدالة. 

منذ زمن بعيد، كانت كل من إيران ومنطقة القوقاز وجمهورية اذربيجان وارمينيا وجوريا ومنطقة قره باغ؛ كانت ولازالت لايتجزأ من الوعاء الجغرافي للحضارة الإسلامية وبضعة من أراضي الامبراطورية الإسلامية والإيرانية، فجميع هذه المناطق تتمتع بمشتركات ثقافية وتاريخية تربط بين هذه المناطق وقاطنيها. یظهر مما تقدم بأن الحل العادل والأنجع لأزمة قره باغ  يجب أن يتمحور حول النطقة المركزية لهذه المناطق، فمن دون تحدید ورصد المجالات التي يجب الاتفاق عليها سوف تفشل كل المبادرات التي تطلق لمعالجة الأزمة هناك. 

——–

* خبير في شؤون منطقة القوقاز

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.