الثقافة الاسلامیۀ
موقع إسلامي وثقافي الثقافة الاسلامية

الصدمة وامتصاص الصدمات؛ استراتيجية أمريكية لدفع الدول نحو الانهيار

0 199

يعتبر استخدام العقل في السلوك الفردي والاجتماعي والعملية العقلانية أهم إنجاز بشري تم التوصل إليه بعد آلاف السنين من التجربة والفشل في طريق النمو والتطور عبر تاريخ البشرية، حتى أن  الله سبحانه وتعالى قد حدد مسار الأديان السماوية في هذا الاتجاه، وقد قدر خاتم أديانه دين العقل وليس الإعجاز، حتى يكون دليلاً للإنسان المتسائل، وتحقيق نمو وتعالي وتمايز الانسان عن غيره من المخلوقات، وجعل الإنسان خليفة خالقه المحبوب.

يعود النمو الفكري والاقتصادي للمجتمعات الإقليمية بين المجتمعات الأخرى في العالم في القرون الأولى لظهور الإسلام إلى نمو العقلانية وليس إلى تحقيق العدالة التي كانت الهدف الرئيسي للإسلام.

بعبارة أخرى، لا الدولة الأموية ولا الدولة العباسية ولا غيرها من الدول الأخرى في العالم الإسلامي سعت إلى تحقيق أهداف الإسلام، بل الدول الاستبدادية التي كانت مستعدة ل قتل أهل بيت الرسول للاحتفاظ بالسلطة، ولكن استمرار هذه الأنظمة الاستبدادية يعود إلى العملية العقلانية التي جاءت نتيجة انتشار الإسلام، الذي استقطب الشعوب وبناء الحضارات، وغطى جرائم هذه الإمبراطوريات.

دخول العالم إلى العصور الوسطى وعصر الظلمات أطاح بالعقلانية وأدى إلى انتشار الخرافات، وظهرت فترة الانحطاط في الحضارة الإنسانية وعندما بدأت النهضة والثورة الصناعية في الغرب تفاءل الكثيرون في جميع أنحاء العالم بإحياء العقلانية رغم أن العقلانية الجديدة لم تكن شاملة وكانت فقط تحمل أبعادا مادية ووضعية. وفي هذه العملية الجديدة للتحرك نحو العقلانية، افترض بعض علماء الغرب أن العقل إله جديد يجب طاعته. وهكذا بدأت عملية تأليه العقلانية، وقياس الإنسان الجديد الأشياء وقبولها فقط عن طريق العقل. وخلال هذه الفترة، فقدت العلوم الفلسفية بريقها وازدهرت العلوم المادية التي يمكن إثباتها في المختبر.

 

لكن مسار هذه التطورات الفكرية في العصر المعاصر، كان خلافا للتوقعات، فبدلاً من التحرك نحو العقل والعقلانية ابتعد عنها أكثر، في البداية كان هناك جدل بين مؤيدي العاطفة والعقل حتى جاء إيمانويل كانط (مفكر فرنسي) وحدد العملية العقلانية في الزمان والمكان، ولكن عندما جاء فريدريك نيتشه (فيلسوف ألماني) أعلن أن العقل المجرد لا قيمة له.  واستبدل الانسان بالعقل واستبدل إرادة الإنسان القائمة على نسبية الحقيقة والأخلاق بالعقل. بعبارة أخرى، كانت نسبية كانط للحقيقة والأخلاق بمثابة بداية لانحراف كبير أبعد الإنسان عن العملية العقلانية واستبدلها بالإنسانية.

وعندما جاء سيغموند فرويد (عالم نفسي نمساوي)، اسقط العقل من التحديد والنسبية، والغاه بالكامل واستبدل اللاوعي البشري بالعقل الواعي وجعله أساساً لفهم السلوك البشري. وعندما جاء مارتن هايدغر (فيلسوف ألماني)، أعلن أن اللغة هي المتغير الرئيسي في فهم توجه السلوك البشري، وليس العقل أو اللاوعي البشري.

يمكن أن يكشف فحص هذه العملية التاريخية كيف ابتعد الإنسان عن العقل والعناصر الأخلاقية في العصر الحديث، وهي القضية التي اشغلت المجتمعات في الأزمات المعاصرة في الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسياسية.

في منتصف القرن العشرين، قدم جون ديوي (فيلسوف أمريكي) وويليام جيمس (عالم نفس أمريكي) و جيرمي بنثام (فيلسوف إنجليزي) شكلاً جديداً عن الفهم الاجتماعي قائماً على البراغماتية. بمعنى إذا كانت مصلحة القوى هي أن عددا لا يحصى من الأشخاص يجب أن يُقتلوا من أجل تحقيق أهداف معينة، فهذه مصلحة بحد ذاتها والقيام بها مشروع! يعتبر تعميم الفكر المكيافيلي والتخلي عن الأخلاق في النظريات السياسية الجديدة أهم سمة للنظريات المعاصرة في الغرب.

يستند الأساس السلوكي للسياسة الأمريكية الحالية على نظرية الواقعية البراغماتية التي لا يوجد فيها فرق بين ترامب المتطرف، الرئيس السابق للولايات المتحدة، وبايدن المعتدل الرئيس الحالي للبيت الأبيض، ولا فرق بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي من حيث التبعية لهذه النظرية.

بعد انتصار أمريكا وحلفائها الأوروبيين في الحرب العالمية الثانية، آمن حكام البيت الأبيض بكيفية محو ذاكرة شعوب العالم وخلق إنسان جديد يمكنهم التعامل معه بشكل أفضل. اقترح رجل يدعى دونالد كاميرون نظرية الصدمة في منتصف القرن العشرين. وطرح نظريته المستوحاة من عملية الصدمة الكهربائية لإحياء الموتى حديثاً في الطب .

كان كاميرون يعتقد أن الإنسان محكوم عليه بأحداث ماضيه الموجودة في ذاكرته، وكذلك تطلعاته للحاضر والمستقبل، بينما كانت تطلب مرحلة ما بعد الحداثة التي سعت إليها الولايات المتحدة بتحرير الإنسان من الماضي والحاضر للعثور على عجينة لصنع الانسان المعاصر. و من أجل تحقيق هدف محو ذاكرة الإنسان، اقترح نظرية الصدمة، التي ينفصل فيها الإنسان  عن الماضي. استخدمت  لأول مرة صدمة العقاقير المخدرة والفضاء المظلم لفصل الانسام عن الماضي، بحيث يفقد الاشخاص في الفضاء الجديد كل حواسهم ويكونون مستعدين للتغيير.

مولت وكالة المخابرات المركزية (CIA) الدراسة واستخدمت لاحقاً هذه الأساليب لانتزاع اعترافات أشخاص معينين. كما استخدمت الولايات المتحدة هذه الطريقة في سجون أبو غريب (العراق) وخليج غوانتانامو (جنوب شرق كوبا). كانوا يصدمون الأشخاص المعتقلين عبر تغيير الظروف الطبيعية، وبعد فصلهم عن ماضيهم كانوا يعترفون بكل شيء وبصدق تام.

في الماضي، كانت تنتزع الاعترافات باستخدام نظريات فرويد وآلية الارتباط الحر والتنويم المغناطيسي. وهي طريقة  فرويد ، فمن خلال التنويم المغناطيسي، كانوا ينشطون اللاوعي ويحصلون على المعلومات المطلوبة من الشخص.

في أمريكا، أولى رجل اسمه ميلتون فريدمان اهتماماً خاصاً لهذه التقنية الكاميرونية واستخدمها في مجال الاقتصاد لتعميم تجارة السوق الحرة للنظام الرأسمالي ونموذج الحياة الغربي الشامل في العالم. بمعنى أدق، من خلال إنشاء نماذج عالمية، تصبح جميع مجتمعات العالم أسواقاً حرة للشركات الغربية، وكلما وجدت عقبة في عملية انتشار هذا النموذج في أي دولة، سيتم إزالتها بالعلاج بالصدمة. وقد بدأ هذا الهدف من خلال تعاون الدول الغربية الصناعية بمساعدة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكان من المقرر السعي إلى تحقيق الأهداف من خلال اجتماعات تنسيقية متتالية، ولهذا يحاول الغرب الهيمنة بالكامل على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ إنشاء هاتين المنظمتين.

بالطبع لابأس بمعرفة الفرق بين الصندوق والبنك. وهاتان المنظمتان تابعتان للأمم المتحدة، حيث يقوم الصندوق من خلال مراكز البحوث الاقتصادية التابعة له بإجراء الوصفات الاقتصادية لمختلف الدول، ويتابع البنك تنفيذ هذه التوصيات، مما يجعل إقراض الدول مشروطا بتنفيذ البرامج المقترحة من قبل الصندوق. وبتعبير أدق، الفرق بين المنظمتين هو في الهيكل والأداء وليس في الأهداف. يتصرفون في تعميم النمط الغربي مثل حافتي مقص. فالدول التي تمر بأزمة وتحتاج إلى قروض تضطر إلى اللجوء إلى هذه المنظمات المالية لحل مشاكلها.

يعتقد فريدمان وتلامذته أن الحكومات التي تفتقر إلى الموارد يجب أن تقبل القرض الذي تحتاجه للانضمام إلى عملية العولمة، لكن الحكومات التي لا تعاني من مشاكل مالية أو حتى لديها احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي يجب ترويضها والانضمام إلى العملية الغربية من خلال اشغالها في حرب داخلية مفروضة أو خارجية مثل العراق والسعودية أو حتى ليبيا أو مشروع تغيير النظام من خلال الانقلابات أو الحصار والعقوبات الاقتصادية.

بالطبع أصبحت أساليب تطبيق هذه النظرية أكثر تنوعا في العقدين الماضيين، وربما يكون تراجع أسعار النفط والمعادن في السنوات الأخيرة أو حتى انتشار وباء كورونا الآن – إذا كنا نؤمن بنظريات المؤامرة، اليوم أمثلة جديدة لهذه النظرية. تحاول هذه الآلية أن تقود الدول المستهدفة إلى مرحلة الانهيار الكامل من خلال نشر البطالة والفقر وبدء أزمات في الأبعاد التعليمية والصحية وأخيراً الاقتصادية، وبمساعدة شعوبها، تصور الولايات المتحدة على أنها المنقذ.

قد يكون فيلمKiller Man ، الذي انتج في هوليوود عام 2019، مستوحى من فكرة أن شخص يفقد ذاكرته بعد وقوع حادث ويخرج من مستشفى مدينة نيويورك دون أي ذكريات، ويقتل أشخاصا مختلفين.

استخدمت أمريكا هذه التقنية في تشيلي والبرازيل وأمريكا اللاتينية بشكل عام، وتعمل حالياً عليها ضد فنزويلا وكوب. فبعد كل صدمة، تأتي الشركات الأمريكية وتبدأ أنشطتها بما يسمى بالاستثمارات من أجل السيطرة على هذه البلدان. وفي عام 1993 استخدمت الولايات المتحدة هذه التقنية ضد كندا، وبعد عام واحد فقط استسلمت كندا للشركات الأمريكية.

يكشف كتاب “عقيدة الصدمة” للكاتبة الأمريكية ناعومي كلاين المزيد من التفاصيل عن هذه النظرية. حيث تشير عقيدة كلاين إلى حقيقة أن السوق الحرة اليوم تستفيد من الصدمات الناجمة عن الكوارث الاجتماعية والسياسية والطبيعية وغيرها في المجتمعات وتنفذ سياساتها في هذه المجتمعات وتحولها إلى سوق استهلاكية لما تريده. في الواقع، عندما يواجه المجتمع صدمة، يحاول اللاوعي العودة إلى طبيعته بأسرع وقت ممكن وبأسرع ردود فعل ممكنة، وهذا يوفر فرصة أن يقوم المعتدون بعملهم بشكل جيد.

ما فرض في العقود الأربعة الماضية ويفرد الآن على الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم يكن سوى نظرية الصدمة و التي اشتدت في السنوات الأخيرة. حيث تشعر أمريكا أن أربعة عقود من العقوبات الشديدة وافتعال الأزمات قد ضغطت على النظام الاقتصادي الإيراني وأدخلته في مرحلة حرجة، وابعدت نظامي التعليم والصحة عن الخصخصة، ويمكن من خلال هذه الأزمات المفروضة أن تخضع إيران وتفرض عليها تغييرات في السياسة.

بالنظر إلى نهج الحكومة الثانية عشرة على مدى السنوات الثماني الماضية، والتي حاولت دائما ترسيخ فكرة لدى الرأي العام الإيراني مفادها أن حل الخلافات مع الحكومة الأمريكية سينقذ إيران من المشاكل والأزمات.

كما ان السياسة المتأثرة الواسعة الانتشار تجاه الولايات المتحدة، أمر واضح تماما عند دراسة مسار الاتفاق النووي، يبدو أن التيارات في هيئة صنع القرار والاجراءات السياسية والاقتصادية لإيران كانت نشطة بما يتماشى مع أمريكا وتطبيق نظرية الصدمة. لذلك فإن إعادة ترتيب هذه البنية ضروري لإنقاذ البلاد من الأزمة والانهيار بسبب الخطة الأمريكية.

قد يكون تولي إبراهيم رئيسي رئاسة الجمهورية في إيران نقطة تحول في تغيير الاتجاه الراهن. ونظراً إلى نوعية رؤيته يؤكد أن مشاكل البلاد سواء كانت خارجية أو داخلية علاجها داخلي فقط، ويجب تصحيح وتسريع تحرك البلاد نحو الاتجاه المطلوب عبر تعبئة القدرات الداخلية. كما يمكن أن يكون هناك تفاؤل في مستقبل مشرق للبلاد.

كما أكد رئيسي وخبراء البلاد أن الفساد المنظم في البلاد وسوء الإدارة هما أساس مشاكل البلاد، وهذا الفساد المنظم تفشى في السلطة التنفيذية على مدى عدة عقود، ومحاربة هذا الفساد يجب أن تتركز بالضرورة في السلطة التنفيذية، وهذا ليس ممكناً ما لم يكن هناك ترتيب جديد في مجالات صنع القرار للإجراءات السياسية والاقتصادية. فإذا فهمت هذه الحقائق بشكل صحيح بناءً على فهم المبادئ الفكرية والسلوكية للغرب، يمكن افشال خطة العدو ويمكن تعزيز عملية تحصين نظام الجمهورية الإسلامية في الاتجاه المطلوب.

حسين كربلائي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.